Translate






في لحظة عابرة بين شخصين، تمتد يد للسلام في مساحة علنية، فترتد الأخرى بدافع ما يسمى "التقوى"، وكأن الطرف الآخر يُحمل على أنه تهديد أخلاقي أو فتنة محتملة. هذا المشهد لم يعد نادرًا، بل أصبح جزءًا من مشهد ديني متكرر، تُترجم فيه الوصاية على الجسد إلى ممارسات ترفض أبسط مظاهر التفاعل الإنساني، وتُحوِّل التواصل الطبيعي إلى مادة للحرام والجحيم.

لطالما كانت المصافحة عند البشر رمزًا للتقدير، والعرفان، والقبول الاجتماعي. لكنها في بعض المجتمعات الإسلامية تحوّلت إلى "امتحان للعفة"، حيث يرفض أحد الطرفين السلام على الآخر، لا لأن في الأمر شبهة، بل لأن كتبًا فقهية من قرون ماضية قررت أن هذه الحركة البسيطة "باب من أبواب الفتنة". يتعامل الخطاب الإسلامي مع اليد كأداة شيطانية، لا وسيلة إنسانية، وكأن اللمس في ذاته إثارة لا تُحتمل.



حين ترفض المرأة المصافحة: هل هو موقف أخلاقي أم إهانة؟

يُفترض أن المرأة المسلمة التي ترفض مصافحة رجل في مكان عام، حتى لو كان مسؤولًا يكرّمها أو يمنحها جنسية أو تكريمًا معنويًا، تقوم بذلك من باب "الطهارة". لكنها فعليًا توصل رسالة خطيرة ومهينة: أن هذا الرجل - الذي قد يكون أكبر منها سنًا ويعاملها باحترام - غير أهل للثقة، وربما هو كائن غير مُتحكم بشهواته. هذه الرؤية ليست فقط غير واقعية، بل تنطوي على دونية تجاه الرجل، وافتراض مرضي بأن أي تواصل بشري مع المرأة يعني فورًا إثارة جنسية.



الفقهاء لا يجتمعون على شيء كما اجتمعوا على تحريم المصافحة

لا يكاد يوجد سلوك مدني يومي جرت شيطنته بهذا القدر مثل المصافحة. جميع المذاهب الإسلامية الرئيسية - بتفاوت في التفاصيل - اتفقت على رفضها، استنادًا إلى روايات متأخرة ومتنازع حول صحتها في الأساس، مثل حديث "لأن يُطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير من أن يمسّ امرأة لا تحل له". الغريب أن هذه الروايات لا تجد ما يسندها من فعل موثق عن محمد خارج النصوص التي تحمل سياقًا تأويليًا لا تاريخيًا، ومع ذلك تُعامَل كأنها تشريع نهائي لا نقاش فيه.



التناقض في الممارسات: الطب مقبول، المصافحة لا

تتعامل ذات البيئة الفقهية الإسلامية التي تُحرّم المصافحة مع مهنة الطب كمجال مباح للاختلاط والفحص الجسدي المباشر، بل ترى أن الطبيب المسلم مطالب بمعالجة النساء، والعكس، في ظروف العلاج. لكن حين تمتد يدٌ للسلام، تُستنهض كل فتاوى الشهوة والفتنة. كيف لمنظومة أخلاقية أن تُجيز لمس الجسد للفحص الطبي وتُحرّمه في لحظة ترحيب إنساني؟ أليس هذا تناقضًا يكشف زيف ما يسمى "النية" و"المقصد الشرعي"؟



هل اللمسة أخطر من الفكرة؟

إذا كانت المصافحة تُعتبر إثارة للشهوة، فهل الأفكار التي يتم بثها في الإعلام، أو الصور الجنسية غير المباشرة، أو تعابير الوجه والنظر، أقل تأثيرًا؟ لماذا تُجعل اليد هي ميدان الحرب الوحيد، بينما تُهمل العوامل الحقيقية التي تُثير المشاعر أو تنتهك الخصوصية؟ هل لأن السيطرة على الجسد أسهل من السيطرة على العقل؟



أسلمة الجسد وتحويله إلى موضوع مراقبة

ما يحدث في تحريم المصافحة ليس إلا امتدادًا لخطاب أوسع، يرى أن الجسد البشري - خاصة جسد المرأة - يجب أن يُدار وفق فقه العار. لا فرق هنا بين مصافحة ولباس وصوت وابتسامة. كل فعل بشري مباح في الأصل، يُعاد تفسيره في إطار الطاعة والنجاسة والتكفير. وتحويل العلاقة بين البشر إلى صراع طهارة، يؤدي إلى تشويه شامل لفهم التواصل الاجتماعي.



المرأة ليست جوهرة بل إنسانة

خطاب الإسلاميين يروّج بأن المرأة "جوهرة مصونة"، "لؤلؤة"، "حلوى". لكنه في الحقيقة لا يراها إنسانة كاملة. يطالبها بالحذر الدائم من كل ما يمكن أن "يشوّه طهارتها"، حتى وإن كانت فقط تصافح شخصًا محترمًا في مكان عام. هذا الخطاب لا يرى المرأة إلا ككائن خاضع للانتهاك، عليه أن يتحرك في العالم خائفًا، مراقبًا لنفسه، مُدانًا بنواياه.



النسوية الإسلامية والتناقض بين الخطاب والممارسة

من أكثر ما يثير السخرية هو الخطاب المتكرّر من بعض منظمات "النسوية الإسلامية" بأن الحجاب هو حرية شخصية. هذا الادعاء ينهار أمام الواقع: لا توجد امرأة ترتدي الحجاب على أساس حرية الاختيار، ثم تخلعه بحرية، وتعيد ارتداءه بحرية، دون أن تواجه ضغطًا مجتمعيًا أو دينيًا أو تهديدًا. إن الادعاء بأن المرأة حرة في سياق ديني لا يعترف أصلاً بحقها في جسدها هو مغالطة كبرى.


في النهاية، فإن كل هذه الفتاوى والقيود ليست سوى بناء فوقي لعقيدة جنسية تتنكر تحت غطاء الطهارة. لا أحد يتحدث عن المصافحة إلا بوصفها مدخلًا للشهوة. لا أحد يسأل لماذا يشعر الرجل المسلم بأنه سيتحول إلى وحش عند أدنى تلامس؟ لماذا يُفترض أن جسد المرأة بهذا القدر من الإثارة القهرية؟ وكيف يُمكن لمجتمع أن ينمو ويتطور ويُنتج، بينما أفراده يتعاملون مع المصافحة كما لو أنها شبهة زنا؟


لا يمكن للعالم المتحضر أن يستمر في مجاملة عقائد تنتمي إلى بيئة قبلية صحراوية قبل 1400 عام، وتتناقض مع كل أسس المدنية. احترام الإنسان لا يعني القبول بخرافاته، بل بمواجهتها حين تُلحق الأذى. المصافحة ليست فعلًا دينيًا، بل فعل إنساني. وكل من يجرّم هذا الفعل البسيط، يمارس عدوانًا على الفطرة، وتدميرًا لبنية التواصل الاجتماعي.


تحريم المصافحة لا يحمي الأخلاق بل يهينها، لا يصون المرأة بل يُجرّدها من إنسانيتها، لا يعبّر عن احترام بل عن خوف، لا يستند إلى منطق بل إلى أوهام. آن الأوان لنقد هذا الهراء علنًا، بلا مواربة، بلا خوف، وبلا أي احترام للجهل الذي يختبئ خلف لحى وسُبح ومآذن.

أكتب تعليق

أحدث أقدم