من الشائع أن يُتهم منتقدو الإسلام بالحقد الأعمى أو بالجهل، أو بأنهم يتعمدون الإساءة لدين يُفترض أنه “دين الحق”. لكن ما يغفل عنه كثير من المسلمين، هو أن هذا الدين نفسه يضعنا – نحن الذين خرجنا من تحت عباءته – في مواجهة مباشرة معه، ليس فقط باعتباره منظومة دينية، بل باعتباره مشروعًا شاملاً يدّعي احتكار الحقيقة، ويرفض أي بديل أو منافس. الإسلام، كما يقدّمه أتباعه ويؤمنون به، ليس مجرد أحد الأديان، بل “الدين الحق” الوحيد المقبول عند الله، وكل ما عداه باطل وضلال ومرفوض. وبالتالي، فإن انتقاده لا يُعد خيارًا أو رفاهية فكرية، بل ضرورة إنسانية وعقلانية.
كشخص نشأ داخل الدائرة الإسلامية، أتيت من خلفية إسلامية عشت فيها تفاصيل هذا الدين بكل ما يحمله من معتقدات وتعاليم وممارسات، وأعرفه عن قرب – عن تجربة شخصية، لا من خارج المشهد أو عبر أحكام مسبقة. ومع مرور الوقت، بدأت أُدرك – بعد التأمل والمراجعة – أن هذا الدين ليس وحيًا إلهيًا منزّهًا، بل منظومة بشرية صنعتها الظروف التاريخية، وتعكس تناقضات وحاجات بيئة بدوية قبل أكثر من 1400 سنة، لا صلة لها بما نواجهه اليوم من تحديات فكرية وأخلاقية وعلمية. ولهذا السبب، فإن نقد الإسلام لم يكن تمرّدًا ولا رغبة في الجدل، بل تجربة كشف وبحث عن الحقيقة، أفضت بي إلى نتيجة واضحة: هذا الدين ليس إلا إنتاجًا بشريًا متكاملًا بنسبة 100%.
وإن كان الإسلام – كما يدّعي أتباعه – دينًا متكاملًا، قويًا، محصنًا، ومبنيًا على حقائق إلهية ثابتة، فلماذا إذًا يُخيفه النقد؟ ولماذا يُقابل النقد بالصراخ والغضب والتكفير؟ لا يخشى النقد إلا البناء الهش، ولا ينزعج من الأسئلة إلا من يشعر أن الأساس الذي يقف عليه قد لا يصمد. أما المنظومات القوية بحق، فهي لا تخاف من المراجعة ولا من المواجهة ولا من إعادة القراءة.
الإسلام الذي نواجهه وننتقده ليس مجرد طقوسٍ روحية شخصية، بل هو منظومة شمولية دكتاتورية، تفرض نفسها على كل شؤون الحياة، من الطعام واللباس، إلى العلاقات الاجتماعية، والتعليم، والتفكير، والمواقف السياسية. بل الأسوأ من ذلك، أنه يحقن العقول منذ الطفولة بمفاهيم جامدة، ويرفض التطوير، ويجرّم التفكير، ويجعل من الشكّ جريمة، ومن النقد كفرًا، ومن التساؤل بابًا إلى الجحيم.
المثير للسخرية أن العالم كله يملك الحق في انتقاد كل شيء – من الإلحاد إلى العلمانية، ومن المسيحية إلى اليهودية والبوذية – دون أن تنهار الأرض من تحت أقدامهم، إلا عندما يقترب أحدهم من الإسلام. فحينها فقط، يُستدعى قانون “ازدراء الأديان”، ويُشهَر سيف “الإسلاموفوبيا”، ويُحرَّض الشارع، وتُحرق السفارات، وتُراق الدماء. وكأن الإسلام يطلب من الجميع أن يعاملوه ككائن هشّ لا يحتمل النقد، رغم أنه يُقدَّم كمنظومة إلهية مكتملة قادرة على قيادة البشرية!
لماذا لا نرى اليهود يثورون إذا ما رُسمت شخصية موسى؟ أو المسيحيين يقطعون الرقاب بسبب هجاء لشخصية المسيح؟ لماذا لا تنهار المعابد البوذية كلما انتُقِدَت قصص الآلهة القديمة؟ وحده الإسلام من يُعلن حالة الطوارئ العالمية لأجل رسم كاريكاتوري أو فيلم نقدي أو حتى تغريدة. هذه ليست غيرة على الدين، بل عُقدة تفوق مقنَّعة بالخوف والضعف، تظهر كلما اهتزت صورة “هيبة الإسلام”.
لكن من ينتقد الإسلام لا يفعل ذلك بدافع الكراهية المجردة. في الغالب، يفعلها لأحد سببين لا ثالث لهما: إما أنه يرى فيه منظومة تستحق المراجعة والتنقية لأنها تشوه نفسها بنفسها، وإما لأنه يرى فيه خطرًا فعليًا يهدد الحريات والعقول والمجتمعات، ويريد تفكيك هذا الخطر قبل أن يستفحل.
لا ننتقد الإسلام لأنه "يصلي ويصوم" ويحثّ على الرحمة كما يدّعي أتباعه، بل لأن هذا الإسلام لا يكتفي بالركوع في المساجد، بل يفرض سطوته على تفاصيل الحياة كلها، من النوم إلى اللباس إلى قوانين الدولة نفسها. الإسلام لا يقف عند باب المسجد، بل يقتحم المؤسسات، الشوارع، التعليم، القضاء، الاقتصاد، بل وأسرّة الناس.
لا يمكن أن يُقدَّم كدين تسامح، بينما هو ذاته يُطلق على غير المسلمين صفات مثل: نجس، كافر، ضال، مغضوب عليه، ابن زنا، حمار يحمل أسفارًا، كلب، وأهل نار. كيف يُطلب من الآخر أن يحترم الإسلام، بينما نصوصه نفسها تفيض بهذه الإهانات والعدوانية؟
هذا الإسلام الذي نحاربه هو نظام شمولي سلطوي مغلف بالدين، لا يسمح بالمشاركة، ولا يقبل الاختلاف، بل يجر المجتمعات خلفه بالقسر، ويستعبد العقول قبل أن يستعبد الأجساد. ويلٌ لكل من تجرأ على التشكيك، فجهنم في انتظاره، واللعنة تطارده في الدنيا والآخرة!
أما عن بقية الأديان، لا نحمل لها نفس الموقف الصدامي، ليس لأننا نؤمن بها أو نخافها، بل لأنها ببساطة لا تتدخل في تفاصيل حياتنا، ولا تفرض علينا قوالب فكرية، ولا تقتحم كل صغيرة وكبيرة في يومنا. نعم، كعلمانيين وتنويريين نؤمن بأن كل الأديان تتضمن نصوصًا خرافية وأسطورية لا يقبلها العلم أو المنطق، لكننا لا نعتبر ذلك أولوية، طالما أن هذه الأديان لا تُستخدم كسلاحٍ اجتماعي لقمع الإنسان أو تقييد حريته.
بل الحقيقة أننا نحترم الجانب الروحي من الإيمان حين يكون خيارًا شخصيًا. من حق أي فرد أن يجد سكينته في "العبادات" كالدعاء، أو الصلاة، أو الصوم، أو التأمل، كما يجدها غيره في الموسيقى أو السفر أو التأمل أو حتى التسوق. الإيمان الشخصي إن ساعد الإنسان على التوازن والسلام النفسي، فذلك يُحترم بل ويُشجَّع.
ولأننا جزء من هذه المجتمعات، نؤمن أن أولى خطوات الإصلاح تبدأ من نقد ومراجعة الدين الذي نرثه دون تفكير، لا من محاربة الأديان الأخرى التي لم تكن السبب في تخلّفنا. الأوروبيون لم يثوروا على الإسلام، بل على رجال الكنيسة في عصور الظلام، وعلى تسلّطهم وهيمنتهم على كل مفصل من مفاصل الحياة. وعندما تخلصوا من تلك الهيمنة، أطلقوا أعظم ثورة علمية وفكرية شهدها التاريخ، وبنوا على أنقاض الدين القامع أعظم حضارة عرفها البشر.
نطمح أن نفعل الشيء نفسه، لا بدافع الكراهية، بل بدافع التحرر والعقل والتنوير. نحن لا نحارب الإسلام كعقيدة شخصية، بل نحاربه كغول سياسي واجتماعي يقف عائقًا أمام أي مشروع عقلاني وحداثي وإنساني في مجتمعاتنا. الهدف ليس الهدم من أجل الهدم، بل تحرير الإنسان ليكون حرًّا في فكره، في ضميره، في خياراته، وليكون للدولة قانونٌ وللعقل صوتٌ وللحياة معنى خارج إطار الخوف والتبعية والخرافة.
إرسال تعليق